تكلمنا في المقال السابق عن تيمورلنك، وعن بدايات الصدام مع الدولة العثمانية، وأسباب التصارع بين القوتين الكبيرتين آنذاك. وتوقفنا عند تساؤل هام عن موقف القوى النصرانية من هذا الصراع.
موقف النصارى
يقول رب العزة عز وجل:
﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
سبحان الله! فهذا هو الواقع الذي عايشناه على مر التاريخ ونحياه الآن، ولكن للأسف الشديد لا يفقه الحكام هذا، أو على الأقل يتناسونه ويقيمون معهم المفاوضات بانتكاسات وخضوع وخنوع، ولو على حساب إخوانهم من المسلمين. وهذا ما فعله النصارى في هذا الموقف، ففور قرع طبول الحرب، شجعها العالم النصراني؛ إذ أن هذا ما كان يتمناه البابا والحكام الأوروبيون، والإمبراطور البيزنطي، بأن تشتعل الحرب بين العثمانيين والمغول من جديد.
ومع اشتعال الصراع، شعرت أوروبا بتنفس الصعداء [1]، وخاصة القسطنطينية. بل أجرى الإمبراطور البيزنطي مفاوضات مع تيمورلنك على الفور، وحذا حذوه شارل الخامس ملك فرنسا، حتى إن إمارة «طرابزون» الصغيرة، أعلنت استعدادها للسماح لتيمورلنك باستخدام مينائها الوحيد، وكذلك وعده أهالي «جنوه» الذين يديرون منطقة «بيزا» الواقعة عند القرن الذهبي لإرسال سفنهم ومنع أي إمدادات عسكرية للعثمانيين إذا ما حاولت العبور إلى آسيا الصغرى في حال ما بدأت الحرب [2]. وكان كل هذا سعيًا للقضاء التام على الدولة العثمانية، بل وإجلائها بالكامل من أوروبا. فأي حقد هذا في قلوب هؤلاء!
معركة أنقرة
كان بايزيد يخطط أن تكون المعركة بينه وبين تيمور خارج حدود الدولة، لا سيما وقد اقترب موسم حصاد الفاكهة، ولا يريد تخريب طعام وتجارة المدينة. أما تيمورلنك فكان يخطط للتوغل السريع بقواته ولمسافات بعيدة في الأراضي العثمانية، وذلك بهدف إرباك بايزيد وقواته؛ حتى تتشتت ولا تعرف أين تقاتل أهنا أم هناك [3].
وعلى هذا، زحف تيمورلنك باتجاه الأناضول، وقد حرص على إخفاء قواته خلف الجبال، وأتلف المزروعات أثناء طريقه، ودمر البلاد التي مر بها خلال عملية الزحف، وكانت حجته في هذا إيجاد وجمع الأعلاف للخيول [4].
تقدم تيمورلنك إلى «سيواس» -والتي كما ذكرنا كان يعتبرها نقطة جوهرية بالنسبة له-؛ فاحتلها وأباد حاميتها، والتي كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد [5]، فكما لو أنه أراد أن يفتك بسيواس على رفضها الدخول في طاعته من قبل، وأن ينتقم من بايزيد في ابنه أرطغرل رحمهما الله.
وقفة
يجب ألا نعجب أبدًا من هذه الحجج التافهة التي تتردد على المسامع من تدمير المدن والزروع لأجل إيجاد طعام للخيول، ألم يكن يستطيع أن يجمع الأعلاف لهم دون حرق المحاصيل ودون قتل البشر ودون تخريب المدن؟! ولكن لا نعجب من هذه الأمور، والتي على إثرها يُذبح المسلمون ويُقتَّلون ويُشرَّدون ويصبحون لاجئين في دول الغرب النصراني، فأوَّاهُ على سوريا اليوم!
المعركة
التقى الجيشان قرب أنقرة، حيث يتضح أن المعركة ستكون هناك، ولذلك أرسل تيمور طليعة من جيشه لردم الآبار من اتجاه بايزيد، وترك بعضها الآخر مسمومًا حتى يُقتل الجيش المسلم شر قتلة، ثم قام بتحويل نهر صغير كان يروي أنقرة لاتجاه آخر حتى لا يصل لقوات بايزيد أي مدد من طعام أو شراب، خصوصًا وهو الجيش المُنهَك بقوة بعد معركة نيقوبوليس.
ولما علم بايزيد بذلك اضطر لأن يتجه في اتجاه الغرب بمسيرة ثمانية أيام تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف الحارق؛ ما أنهك الجيش العثماني بقوة، وحالت قوات تيمور بينهم وبين الماء عندما وصلوا إلى أرض المعركة، فاستغل تيمور هذه الأمور وسارع في البدء بالمعركة [6].
أظهر بايزيد في المعركة شجاعة وبسالة لا مثيل لها، حتى أن تيمور ذاته أُعجِب بها وهو خصمه اللدود، ولكن ما حدث من خيانات قلبت موازين المعركة رأسًا على عقبٍ.
فقد راسل تيمورلنك أمراء المغول في جيش بايزيد، والذين كانوا يمثلون ثلثي الجيش، فكاتبهم حتى استمالهم بالعصبية المغولية، وبأمور أخرى كتمنيتهم بالحكم في مناطق أوسع، وغير ذلك من الأمور التي جاءت بنتيجة معهم وجعلتهم ينسحبون عند بدء المعركة، كما انسحبت القوات التركية التي انضمت إليه حديثًا، وتركوا بايزيد وحده يلاقي حتفه ومن بقي معه من قوات الصرب [7].
ورغم هذا كله، وهذه الظروف المعاكسة، استمر بايزيد في الحرب التي اشتد وطيسها إلى أعالي السماء، وأثبتت القوات الانكشارية قوتها وبراعتها بشكل منقطع النظير. ولكن المعركة كانت واضحة المعالم، وأنها محسومة لتيمور، خصوصًا بعد هذه الانسحابات المتتالية من جيش بايزيد، حتى أن ابنه الأمير سليمان بن بايزيد والصدر الأعظم علي باشا طلبا من بايزيد أن يفر، إلا أنه استمر في الحرب دون تقدير للنتائج، ولم يُعِرْ التفاته لطلب ابنه والصدر الأعظم علي باشا؛ لذلك انسحب الاثنان باتجاه بورصة، كما انسحبت القوات الصربية سريعًا إلى أماسيا [8].
وكان واضحًا أن العثمانيين سيُهزَمون لا محالة. وهنا يبرز خطأ بايزيد، وهو استمراره في المعركة حتى هذه اللحظة، وهو ذو الخبرة العسكرية الكبرى، والوعي والفهم الكبيرين الذين جعلا من اسمه صاعقة على رؤوس الأعداء، إلا أنه أخطأ خطأ كبيرًا كلفهُ هزيمةً ساحقةً حلت به في هذه المعركة نتيجة الاستمرار فيها رغم ما يحدث من انسحابات وخيانات كبرى في جيشه.
وفى الليل، طوقت قوات تيمورلنك ما تبقى من قوات بايزيد، وأخذت القائد العظيم بايزيد الصاعقة أسيرًا لدى تيمور، وانتهت المعركة بانتصار تيمورلنك الساحق على بايزيد الصاعقة.
وبعد هذا الانتصار الساحق لتيمور، تقدم باتجاه بورصة فدخلها وأحرقها [9]، وحمل معه من المدينة المكتبةَ البيزنطية والأبواب الفضية، كما انتزع “أزمير” من أيدي فرسان رودوس [10] وأقام في “إقسوس” [11].
وأخيرًا، عاد تيمورلنك إلى سمرقند بعد أن حاول إزالة النقمة الموجودة في قلوب المسلمين نتيجة الانتصار على بايزيد، ونتيجة المذابح التي أقامها في سيواس، وما يفعله من مخالفة للأحكام الاسلامية؛ فحاول أن يشن هجمات على النصارى حتى يستعطف قلوب المسلمين.
وسبحان الله، كانت الفرصة مواتية لتيمور في دخول الأناضول، إلا أن الله تعالى أعماه عن ذلك، وجعله يعود كما لو أن الله يريد أن يعطي الفرصةَ مرة أخرى للعثمانيين لاستعادة توازنهم وإقامة العدل في ربوع الدنيا من جديد، فعاد تيمورلينك ورغبته هي فتح الصين كلها لتكون تحت ملكه.
وفاة بايزيد الصاعقة رحمه الله
عاش السلطان بايزيد أسيرًا لدي تيمور مدة 7 أشهر و12 يومًا، وتُوفي قرب مدينة قونية في 3 مارس عام 1403 م، وأُرسِل جثمانه إلى بورصة. وعلى إثر وفاته أطلق تيمورلينك سراح موسى جلبي، أحد ابني بايزيد الذي أُسرَ معه [12].
اقرأ أيضًا: شخصيات حق علينا معرفتها… بايزيد صاعقة الإسلام
نهاية تيمورلنك
ولم يكد يستقر في سمرقند حتى أعد العدة لغزو الصين في خريف (807هـ / 1404م)، وكان الجو شديد البرودة حين خرج لغزوته الأخيرة، وعاند نصائح أطبائه واستمر بحملته، وعانى جيشه قسوة البرد والثلج، ولم تتحمل صحته هذا الجو القارس فأصيب بالحمى التي أودت بحياته. ويقال إنه مات بفعل مستحضر معمول من تقطير الخمر صنعه له أطباؤه بناء على أوامره ليقاوم البرد حيث أذاب كبده في 17 من شعبان 807 هـ / 18 من فبراير 1405 م، وبعد وفاته نُقِل جثمانه إلى سمرقند، حيث دفن هناك في ضريحه المعروف بـ«كور أمير»، أي مقبرة الأمير.
مسألة الأسر للسلطان بايزيد
بعد أن انتصر تيمورلنك على بايزيد الأول الصاعقة رحمه الله وغفر له، حمله معه إلى سمرقند أسيرًا، وقد عامله بكل إجلال واحترام على الرغم من سابق الرسائل المتبادلة بين الطرفين، وأمر بفك أغلاله وأجلسه إلى جانبه، وأكد له بأنه سيبقى على حياته، ولكن أسيراً لديه؛ فأصدر تعليماته بأن تنصب ثلاث خيام فخمة لحاشيته، وعندما حاول بايزيد الهرب احتجزه في غرفة ذات نوافذ مسدودة بالحواجز. وبالغت الأساطير فذكرت أنه قفص من الحديد [13]. وقد مرض بايزيد بعد ذلك وتُوفي وهو في الأسر.
وقد ثارت أمور يذكرها بعض المؤرخين بأن السلطان بايزيد عُومِل معاملة قاسية في الأسر وعُذِّب أشد العذاب، إلا أن الراجح من الأقوال أن هذا لم يحدث، غير أن هذا لا يمنع من كون الأسر في ذاته عذابًا، خصوصًا لرجل مثل بايزيد رحمه الله.
الأمر الثاني تجده في بعض كتب المؤرخين، وخصوصًا الناقلين من الغرب، أنهم يحاولون الابتعاد عن لفظة “الحبس” أو “الأسر”، فيقولون إن تيمور وضع بايزيد على حصانين أثناء نقله، بغرفة مقفلة شبابيكها بقضبان من حديد. فالسؤال المهم: أليس هذا حبسًا وأسرًا؟! إذًا فلماذا نجمّل اللفظ؟!
وتجد البعض الآخر ينحون منحى أبعد من ذلك؛ نظرًا لأن بعض المؤرخين الأتراك أطلقوا لفظ “التختروان” أي القفص، فلما نقل المترجمين الغرب عنهم هذا اللفظ ظنوا أن تيمور وضعه في قفص مثل الوحوش، أي معاملة المعذبين والعبيد. ومن إجمالي الأقوال كما ذكرنا آنفًا، أن السلطان بايزيد عومل معاملة جيدة، ولكن بتشديد الحراسة عليه إلى أن مات في الأسر رحمه الله.
وبأي حال، فالمُوهَوِّنون من أسره قد وقعوا في الخطأ، والذين بالغوا في تعذيبه قد أخطأوا هم أيضًا.
فرية انتحار بايزيد رحمه الله
من أغرب الفريات التي ذُكرت على بايزيد الصاعقة، وهو من أكثر السلاطين العثمانيين تعرضًا للأقاويل، أنه مات منتحرًا. ويرجع ذلك إلى هزيمته أمام تيمورلينك والتي أرجعت الدولة إلى الوراء بشكل كبير جدًا، بعد أن كانت متقدمة تقدمًا بارزًا وقويًا، بل كانت من أقوى الدول على الساحة الدولية، حتى أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من فتح القسطنطينية.
وبخصوص وفاته رحمه الله فنجد لها ثلاث روايات:
- الرواية الأولى: أن بايزيد رحمه الله أصيب بحمي شديدة وضيق في التنفس وأمراض أخرى ألمت به نتيجة الغم الشديد والحزن العميق للمصيبة الكبرى التي أصابته. ونرى أن هذه هي الصحيحة، وأن إسناد تصرف الانتحار هذا ما هو إلا افتراء عليه، ويؤكد هذه الرواية المعاصرون للسلطان نفسه، وعلى رأسهم المؤرخ عربشاه، صاحب كتاب عجائب المقدور. ولهذا فإننا نرى أن هذه هي أصح الروايات التي قيلت في وفاته رحمه الله [14].
- الرواية الثانية: تقول إن تيمورلنك كان عازمًا على إطلاق سراحه، إلا أنه تراجع عن ذلك مرة أخرى؛ فأصاب بايزيد اليأس فتجرع السم ومات. ويستند أرباب هذا القول إلى ما ذكره لطفي باشا وعاشق باشا زاده ومؤلف كتاب تواريخ آل عثمان: “إنه ما إن سمع السلطان بايزيد أنه سيذهب إلي سمرقند حتى اعتل غاية العلة” فكيف تفسر هذه الكلمات على أنه سينتحر، أو حتى قوله رحمه الله: “اللهم أمتني إن كان الممات خيرًا لي”. فربما المستشرقون معذرون لأنهم لا يعرفون هذه القولة في الإسلام، أو أنها جائزة في بعض الأحيان، مثلما كان بايزيد رحمه الله. ولكن العرب والمسلمين ما عذرهم لينقلوا مثل هذه الفرية على الصاعقة ويفسرون ذلك على كونه انتحارًا؟ [15].
- الرواية الثالثة: وتقول إن تيمور قد دس له السم، إلا أن الواقع التاريخي يؤكد عكس ذلك، بل إن غالبية المؤرخين لا يلتفتون إلى هذه المقولة نهائيًا [16].
وخلاصة القول فقد تُوفِي بايزيد الصاعقة تاركًا الدولة في حالة من الشتات، وتحتاج إلى من يلملمه بحكمة وحنكة وحذر، فهل حدث ذلك فعلًا؟! هذا ما سنعرفه عند الحديث عن الشخصية التالية.
المصادر
- كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية.
- محمد سهيل طقوش، تاريخ العثمانيين.
- على الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط.
- ابن عربشاه، عجائب المقدور في نوائب تيمور.
- عبد المنعم الهاشمي الدولة العثمانية.
- يلماز ازوتونا، تاريخ الدولة العثمانية ج1.
- احمد اق كوندز – سعيد اوزتورك.
- 303 سؤال الدولة العثمانية المجهولة.
تكلمنا في المقال السابق عن تيمورلنك، وعن بدايات الصدام مع الدولة العثمانية، وأسباب التصارع بين القوتين الكبيرتين آنذاك. وتوقفنا عند تساؤل هام عن موقف القوى النصرانية من هذا الصراع.
موقف النصارى
يقول رب العزة عز وجل:
﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
سبحان الله! فهذا هو الواقع الذي عايشناه على مر التاريخ ونحياه الآن، ولكن للأسف الشديد لا يفقه الحكام هذا، أو على الأقل يتناسونه ويقيمون معهم المفاوضات بانتكاسات وخضوع وخنوع، ولو على حساب إخوانهم من المسلمين. وهذا ما فعله النصارى في هذا الموقف، ففور قرع طبول الحرب، شجعها العالم النصراني؛ إذ أن هذا ما كان يتمناه البابا والحكام الأوروبيون، والإمبراطور البيزنطي، بأن تشتعل الحرب بين العثمانيين والمغول من جديد.
ومع اشتعال الصراع، شعرت أوروبا بتنفس الصعداء [1]، وخاصة القسطنطينية. بل أجرى الإمبراطور البيزنطي مفاوضات مع تيمورلنك على الفور، وحذا حذوه شارل الخامس ملك فرنسا، حتى إن إمارة «طرابزون» الصغيرة، أعلنت استعدادها للسماح لتيمورلنك باستخدام مينائها الوحيد، وكذلك وعده أهالي «جنوه» الذين يديرون منطقة «بيزا» الواقعة عند القرن الذهبي لإرسال سفنهم ومنع أي إمدادات عسكرية للعثمانيين إذا ما حاولت العبور إلى آسيا الصغرى في حال ما بدأت الحرب [2]. وكان كل هذا سعيًا للقضاء التام على الدولة العثمانية، بل وإجلائها بالكامل من أوروبا. فأي حقد هذا في قلوب هؤلاء!
معركة أنقرة
كان بايزيد يخطط أن تكون المعركة بينه وبين تيمور خارج حدود الدولة، لا سيما وقد اقترب موسم حصاد الفاكهة، ولا يريد تخريب طعام وتجارة المدينة. أما تيمورلنك فكان يخطط للتوغل السريع بقواته ولمسافات بعيدة في الأراضي العثمانية، وذلك بهدف إرباك بايزيد وقواته؛ حتى تتشتت ولا تعرف أين تقاتل أهنا أم هناك [3].
وعلى هذا، زحف تيمورلنك باتجاه الأناضول، وقد حرص على إخفاء قواته خلف الجبال، وأتلف المزروعات أثناء طريقه، ودمر البلاد التي مر بها خلال عملية الزحف، وكانت حجته في هذا إيجاد وجمع الأعلاف للخيول [4].
تقدم تيمورلنك إلى «سيواس» -والتي كما ذكرنا كان يعتبرها نقطة جوهرية بالنسبة له-؛ فاحتلها وأباد حاميتها، والتي كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد [5]، فكما لو أنه أراد أن يفتك بسيواس على رفضها الدخول في طاعته من قبل، وأن ينتقم من بايزيد في ابنه أرطغرل رحمهما الله.
وقفة
يجب ألا نعجب أبدًا من هذه الحجج التافهة التي تتردد على المسامع من تدمير المدن والزروع لأجل إيجاد طعام للخيول، ألم يكن يستطيع أن يجمع الأعلاف لهم دون حرق المحاصيل ودون قتل البشر ودون تخريب المدن؟! ولكن لا نعجب من هذه الأمور، والتي على إثرها يُذبح المسلمون ويُقتَّلون ويُشرَّدون ويصبحون لاجئين في دول الغرب النصراني، فأوَّاهُ على سوريا اليوم!
المعركة
التقى الجيشان قرب أنقرة، حيث يتضح أن المعركة ستكون هناك، ولذلك أرسل تيمور طليعة من جيشه لردم الآبار من اتجاه بايزيد، وترك بعضها الآخر مسمومًا حتى يُقتل الجيش المسلم شر قتلة، ثم قام بتحويل نهر صغير كان يروي أنقرة لاتجاه آخر حتى لا يصل لقوات بايزيد أي مدد من طعام أو شراب، خصوصًا وهو الجيش المُنهَك بقوة بعد معركة نيقوبوليس.
ولما علم بايزيد بذلك اضطر لأن يتجه في اتجاه الغرب بمسيرة ثمانية أيام تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف الحارق؛ ما أنهك الجيش العثماني بقوة، وحالت قوات تيمور بينهم وبين الماء عندما وصلوا إلى أرض المعركة، فاستغل تيمور هذه الأمور وسارع في البدء بالمعركة [6].
أظهر بايزيد في المعركة شجاعة وبسالة لا مثيل لها، حتى أن تيمور ذاته أُعجِب بها وهو خصمه اللدود، ولكن ما حدث من خيانات قلبت موازين المعركة رأسًا على عقبٍ.
فقد راسل تيمورلنك أمراء المغول في جيش بايزيد، والذين كانوا يمثلون ثلثي الجيش، فكاتبهم حتى استمالهم بالعصبية المغولية، وبأمور أخرى كتمنيتهم بالحكم في مناطق أوسع، وغير ذلك من الأمور التي جاءت بنتيجة معهم وجعلتهم ينسحبون عند بدء المعركة، كما انسحبت القوات التركية التي انضمت إليه حديثًا، وتركوا بايزيد وحده يلاقي حتفه ومن بقي معه من قوات الصرب [7].
ورغم هذا كله، وهذه الظروف المعاكسة، استمر بايزيد في الحرب التي اشتد وطيسها إلى أعالي السماء، وأثبتت القوات الانكشارية قوتها وبراعتها بشكل منقطع النظير. ولكن المعركة كانت واضحة المعالم، وأنها محسومة لتيمور، خصوصًا بعد هذه الانسحابات المتتالية من جيش بايزيد، حتى أن ابنه الأمير سليمان بن بايزيد والصدر الأعظم علي باشا طلبا من بايزيد أن يفر، إلا أنه استمر في الحرب دون تقدير للنتائج، ولم يُعِرْ التفاته لطلب ابنه والصدر الأعظم علي باشا؛ لذلك انسحب الاثنان باتجاه بورصة، كما انسحبت القوات الصربية سريعًا إلى أماسيا [8].
وكان واضحًا أن العثمانيين سيُهزَمون لا محالة. وهنا يبرز خطأ بايزيد، وهو استمراره في المعركة حتى هذه اللحظة، وهو ذو الخبرة العسكرية الكبرى، والوعي والفهم الكبيرين الذين جعلا من اسمه صاعقة على رؤوس الأعداء، إلا أنه أخطأ خطأ كبيرًا كلفهُ هزيمةً ساحقةً حلت به في هذه المعركة نتيجة الاستمرار فيها رغم ما يحدث من انسحابات وخيانات كبرى في جيشه.
وفى الليل، طوقت قوات تيمورلنك ما تبقى من قوات بايزيد، وأخذت القائد العظيم بايزيد الصاعقة أسيرًا لدى تيمور، وانتهت المعركة بانتصار تيمورلنك الساحق على بايزيد الصاعقة.
وبعد هذا الانتصار الساحق لتيمور، تقدم باتجاه بورصة فدخلها وأحرقها [9]، وحمل معه من المدينة المكتبةَ البيزنطية والأبواب الفضية، كما انتزع “أزمير” من أيدي فرسان رودوس [10] وأقام في “إقسوس” [11].
وأخيرًا، عاد تيمورلنك إلى سمرقند بعد أن حاول إزالة النقمة الموجودة في قلوب المسلمين نتيجة الانتصار على بايزيد، ونتيجة المذابح التي أقامها في سيواس، وما يفعله من مخالفة للأحكام الاسلامية؛ فحاول أن يشن هجمات على النصارى حتى يستعطف قلوب المسلمين.
وسبحان الله، كانت الفرصة مواتية لتيمور في دخول الأناضول، إلا أن الله تعالى أعماه عن ذلك، وجعله يعود كما لو أن الله يريد أن يعطي الفرصةَ مرة أخرى للعثمانيين لاستعادة توازنهم وإقامة العدل في ربوع الدنيا من جديد، فعاد تيمورلينك ورغبته هي فتح الصين كلها لتكون تحت ملكه.
وفاة بايزيد الصاعقة رحمه الله
عاش السلطان بايزيد أسيرًا لدي تيمور مدة 7 أشهر و12 يومًا، وتُوفي قرب مدينة قونية في 3 مارس عام 1403 م، وأُرسِل جثمانه إلى بورصة. وعلى إثر وفاته أطلق تيمورلينك سراح موسى جلبي، أحد ابني بايزيد الذي أُسرَ معه [12].
اقرأ أيضًا: شخصيات حق علينا معرفتها… بايزيد صاعقة الإسلام
نهاية تيمورلنك
ولم يكد يستقر في سمرقند حتى أعد العدة لغزو الصين في خريف (807هـ / 1404م)، وكان الجو شديد البرودة حين خرج لغزوته الأخيرة، وعاند نصائح أطبائه واستمر بحملته، وعانى جيشه قسوة البرد والثلج، ولم تتحمل صحته هذا الجو القارس فأصيب بالحمى التي أودت بحياته. ويقال إنه مات بفعل مستحضر معمول من تقطير الخمر صنعه له أطباؤه بناء على أوامره ليقاوم البرد حيث أذاب كبده في 17 من شعبان 807 هـ / 18 من فبراير 1405 م، وبعد وفاته نُقِل جثمانه إلى سمرقند، حيث دفن هناك في ضريحه المعروف بـ«كور أمير»، أي مقبرة الأمير.
مسألة الأسر للسلطان بايزيد
بعد أن انتصر تيمورلنك على بايزيد الأول الصاعقة رحمه الله وغفر له، حمله معه إلى سمرقند أسيرًا، وقد عامله بكل إجلال واحترام على الرغم من سابق الرسائل المتبادلة بين الطرفين، وأمر بفك أغلاله وأجلسه إلى جانبه، وأكد له بأنه سيبقى على حياته، ولكن أسيراً لديه؛ فأصدر تعليماته بأن تنصب ثلاث خيام فخمة لحاشيته، وعندما حاول بايزيد الهرب احتجزه في غرفة ذات نوافذ مسدودة بالحواجز. وبالغت الأساطير فذكرت أنه قفص من الحديد [13]. وقد مرض بايزيد بعد ذلك وتُوفي وهو في الأسر.
وقد ثارت أمور يذكرها بعض المؤرخين بأن السلطان بايزيد عُومِل معاملة قاسية في الأسر وعُذِّب أشد العذاب، إلا أن الراجح من الأقوال أن هذا لم يحدث، غير أن هذا لا يمنع من كون الأسر في ذاته عذابًا، خصوصًا لرجل مثل بايزيد رحمه الله.
الأمر الثاني تجده في بعض كتب المؤرخين، وخصوصًا الناقلين من الغرب، أنهم يحاولون الابتعاد عن لفظة “الحبس” أو “الأسر”، فيقولون إن تيمور وضع بايزيد على حصانين أثناء نقله، بغرفة مقفلة شبابيكها بقضبان من حديد. فالسؤال المهم: أليس هذا حبسًا وأسرًا؟! إذًا فلماذا نجمّل اللفظ؟!
وتجد البعض الآخر ينحون منحى أبعد من ذلك؛ نظرًا لأن بعض المؤرخين الأتراك أطلقوا لفظ “التختروان” أي القفص، فلما نقل المترجمين الغرب عنهم هذا اللفظ ظنوا أن تيمور وضعه في قفص مثل الوحوش، أي معاملة المعذبين والعبيد. ومن إجمالي الأقوال كما ذكرنا آنفًا، أن السلطان بايزيد عومل معاملة جيدة، ولكن بتشديد الحراسة عليه إلى أن مات في الأسر رحمه الله.
وبأي حال، فالمُوهَوِّنون من أسره قد وقعوا في الخطأ، والذين بالغوا في تعذيبه قد أخطأوا هم أيضًا.
فرية انتحار بايزيد رحمه الله
من أغرب الفريات التي ذُكرت على بايزيد الصاعقة، وهو من أكثر السلاطين العثمانيين تعرضًا للأقاويل، أنه مات منتحرًا. ويرجع ذلك إلى هزيمته أمام تيمورلينك والتي أرجعت الدولة إلى الوراء بشكل كبير جدًا، بعد أن كانت متقدمة تقدمًا بارزًا وقويًا، بل كانت من أقوى الدول على الساحة الدولية، حتى أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من فتح القسطنطينية.
وبخصوص وفاته رحمه الله فنجد لها ثلاث روايات:
- الرواية الأولى: أن بايزيد رحمه الله أصيب بحمي شديدة وضيق في التنفس وأمراض أخرى ألمت به نتيجة الغم الشديد والحزن العميق للمصيبة الكبرى التي أصابته. ونرى أن هذه هي الصحيحة، وأن إسناد تصرف الانتحار هذا ما هو إلا افتراء عليه، ويؤكد هذه الرواية المعاصرون للسلطان نفسه، وعلى رأسهم المؤرخ عربشاه، صاحب كتاب عجائب المقدور. ولهذا فإننا نرى أن هذه هي أصح الروايات التي قيلت في وفاته رحمه الله [14].
- الرواية الثانية: تقول إن تيمورلنك كان عازمًا على إطلاق سراحه، إلا أنه تراجع عن ذلك مرة أخرى؛ فأصاب بايزيد اليأس فتجرع السم ومات. ويستند أرباب هذا القول إلى ما ذكره لطفي باشا وعاشق باشا زاده ومؤلف كتاب تواريخ آل عثمان: “إنه ما إن سمع السلطان بايزيد أنه سيذهب إلي سمرقند حتى اعتل غاية العلة” فكيف تفسر هذه الكلمات على أنه سينتحر، أو حتى قوله رحمه الله: “اللهم أمتني إن كان الممات خيرًا لي”. فربما المستشرقون معذرون لأنهم لا يعرفون هذه القولة في الإسلام، أو أنها جائزة في بعض الأحيان، مثلما كان بايزيد رحمه الله. ولكن العرب والمسلمين ما عذرهم لينقلوا مثل هذه الفرية على الصاعقة ويفسرون ذلك على كونه انتحارًا؟ [15].
- الرواية الثالثة: وتقول إن تيمور قد دس له السم، إلا أن الواقع التاريخي يؤكد عكس ذلك، بل إن غالبية المؤرخين لا يلتفتون إلى هذه المقولة نهائيًا [16].
وخلاصة القول فقد تُوفِي بايزيد الصاعقة تاركًا الدولة في حالة من الشتات، وتحتاج إلى من يلملمه بحكمة وحنكة وحذر، فهل حدث ذلك فعلًا؟! هذا ما سنعرفه عند الحديث عن الشخصية التالية.
المصادر
- كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية.
- محمد سهيل طقوش، تاريخ العثمانيين.
- على الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط.
- ابن عربشاه، عجائب المقدور في نوائب تيمور.
- عبد المنعم الهاشمي الدولة العثمانية.
- يلماز ازوتونا، تاريخ الدولة العثمانية ج1.
- احمد اق كوندز – سعيد اوزتورك.
- 303 سؤال الدولة العثمانية المجهولة.
انشر البوست على : on Twitter on Facebook on Google+ on LinkedIn