مرت الأمة الإسلامية بفترات طويلة من القوة والضعف، والفتية والشيخوخة، ثم النهوض لتعود لمرحلة الشباب مرة أخرى بقوة وبأس شديدين في دورة حياة الأمم، ومن فترات المحن التي مرت بالأمة الإسلامية، كانت الفترة التي تلت معركة أنقرة التي انهزم فيها السلطان بايزيد الصاعقة، ووقع في الأسر على يد تيمورلنك، حيث تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة، مثلما حدث بعد سقوط دولة آل سلجوق؛ ذلك لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قستموني وصاروخان وكرميان ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد، حيث كان هدفه الرئيسي هو إشعال نار الفتنة في البلاد كي لا تستطيع أن تقوم مرة أخرى.
الوضع بعد معركة أنقرة
كان الوضع بعد معركة أنقرة مأسويًا لأقصى الدرجات؛ إذ تمزقت الدولة على نحو كبير، وتصارع الأبناء وانتهز الأعداء الفرصة للانقضاض على الدولة، سواء من الداخل أو من الخارج، فتشتت الدولة وتجزأت أوصالها، ناهيك عن كون كل أمراء التركمان يسعون بكل جد واجتهاد لنيل رضاء تيمورلنك، بل وعيّن تابعه المخلص «طهارتن» في حكم أرزينجان وزاد في أملاكه، وفعل مثل ذلك مع تابعه الآخر «عثمان قرايلوك»، حاكم ديار بكر وزعيم الآق قويونلي.
وبعد استقلال الأمراء التركمان، تشجع كل من البلغار والصرب والفلاخ على الخروج عن الدولة وإعلان العصيان، وبالتالي لم يبقَ للدولة العثمانية إلا قليل من البلدان تحت سيطرتها، وقد أتاحت موقعة أنقرة وهزيمة آل عثمان الفرصة الكبيرة للدولة البيزنطية لالتقاط الأنفاس، بعد أن كانت على وشك فتح أبواب مدينة القسطنطينية، الأمر الذي مهّد الطريق للمؤامرات على الدولة العثمانية من جديد، والاستعداد بحملة عسكرية لإجلائهم بالكامل من أوروبا. ولكن خلافات زعمائهم جنوب الدانوب وضعف هذه الحملة كانت سببًا لفشلها، وإن كان قد بدأ بالفعل الإمبراطور البيزنطي بطرد المسلمين من الحي المخصص لهم في القسطنطينية.
أما الذي زاد من شدة الفتنة أن رؤوس الأمر في تصارع وتناحر شديدين، فكل أولاد بايزيد يتصارعون لأخذ السلطة، كلٌ على طريقته؛ «فسليمان بن بايزيد»، الذي انسحب من المعركة مع عدد وفير من الجند إلى بورصة لإنقاذ الأموال والنساء والأولاد من القوات التيمورية التي كانت تتعقبه، قد وجه أنظاره نحو الغرب الصليبي البيزنطي، حيث عقد محالفة مع «مانويل الثاني» ليساعده على محاربة إخوته الذين ينافسونه على الحكم. ولأجل ذلك، تزوج سليمان من إحدى قريبات الإمبراطور، بل وعقد معاهدة مع الوصي على العرش «جان السابع» والجمهورية البندقية والجمهورية الجنوية، وهم من أشد أعداء الدولة العثمانية وأكثرهم رغبة في إجلاءها من أوروبا بالكامل، وتتضمن تلك الاتفاقية وجوب فتح المعابر في السلطنة لتجارتهم، وبالتالي موافقة السلطان على عدم دخول السفن العثمانية إلى الدردنيل أو الخروج منه دون إجازة منهم. بل وتنازل سليمان فيها عن “سالونيك” ومنطقتها التي كانت سقطت بيد القائد العثماني «أفرقوس بك»، وإعفاء الإمبراطور البيزنطي والجاليات الجنوية في البحر الأسود من الضريبة المفروضة عليهم.
وكان تحالف سليمان يضم بجانب الإمبراطور البيزنطي، كلًا من فرسان القديس يوحنا في رودس، و«أسطفان لازار» الصربي، وحاكم ناكسوس وجنوه، وفي الوقت الذي أعلن فيه سليمان نفسه سلطانًا على الروميلي متخذًا أدرنة عاصمة له، كان إخوته «عيسى» و«موسى» و«محمد» يتناحرون في الأناضول سعيًا لتحقيق الغلبة المطلقة هناك. ولأجل زيادة الشقاق والخلاف، فقد عمد أمراء الأناضول والدولة البيزنطية إلى توسيع هوة الخلاف بين الإخوة ومساعدة أحدهم على الآخر من أجل عدم استعادة الدولة هيبتها مرة أخرى، ولتصبح مجرد تابع إلى حين تأتي الفرصة لطردهم جميعًا من أوروبا.
لذلك؛ لما تُوفي السلطان بايزيد -رحمه اللّه- وأُرسِل جثمانه إلى ابنه موسى ليدفنه في بورصة -كما كانت وصية والده-، غادرها أخوه عيسى، ولكنه استعادها بعد ذلك؛ ما جعل موسى مضطرًا للجوء إلى خاله «يعقوب بك ابن كرمان» في كوتاهية؛ فحُجزَ هناك، ولم يستطع الخروج منها إلى أن استطاع بعد ذلك أن يحرره ويفك أسره أخوه «محمد جلبي». وكان عيسى قد استقر في “باليكسير” و”بورصة”، واستقر محمد جلبي الذي وطد مقامه في “أماسيا” و”توقات” و”نيكحصار” و”سيواس”، وعرض محمد جلبي تقسيم الأناضول فيما بينه وبين عيسى حقنًا للدماء فرفض؛ فكان لا مفر من المواجهة بين الفريقين، وكان سليمان في ذلك الوقت مكتفيًا بمساعدة عيسى على أخيه محمد دون تدخل بقواته بشكل فعلي، وحدثت الموقعة بين الفريقين عند “أولوباد” التي هُزم فيها عيسى، وفر هاربًا والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطي الذي سلمه لأخيه الأكبر سليمان في “أدرنة”، ثم سعى لإعادته مرة أخرى إلى الأناضول ليواجه محمد جلبي كي لا ينفرد بالحكم. وفي ذلك الوقت، سعى محمد جلبي إلى فك أسر أخيه موسى من الكرمان كي يساعده في حربه ضد إخوته، إي أن الوضع في ذلك الوقت محتدم بشدة وإلى أقصى الدرجات.
والذي نحمد اللّه عليه أن تيمورلنك انشغل بحملته على الصين؛ ما أبعده عن الدولة العثمانية، إذ كانت لديه القدر الكافي للقضاء عليها تمامًا، وكأن اللّه أراد أن يمنح هذه الدولة فرصة أخرى ومنحة جديدة لتساهم في نشر دين اللّه تعالى وتستكمل مسيرة الفتوحات.
اشتعال الصراع
أصبح الوضع الآن بين جبهتين بين الأخوة الأربعة، وكل جبهة تعادي الأخرى وتتمنى لها الموت التام لبسط السيطرة والنفوذ. وكانت طائفة العلماء تدعم محمد جلبي لأنه لم يخنع ويخضع مثل أخيه سليمان، سواء للصليبين أو لتيمورلنك، وبالتالي كان أملهم في إعادة الأمجاد مرة أخرى يتمثل في تمكين محمد جلبي من الحكم، ونظرًا لانتصار محمد جلبي على أخيه عيسى، الأمر الذي أقلق سليمان بشدة؛ ما جعله يجهز جيشًا وضع على رأسه أخاه عيسى. إلا أنه مُنيَ بهزيمة جديدة، ما دفعه للهروب إلى «إسفنديار بك»، الذي حصل على دعمه ضد أخيه. وعاد الكرة مرة أخرى، ولكنه مُنيَ بهزيمة جديدة؛ فالتجأ إلى الكيرمان، إلا أن الإخفاق كان حليفه؛ فوجه شطره إلى «ابن قرة مان»، ولكن قبض عليه عند عودته، وقُتل سنة 1405 م.
قام محمد جلبي بإعداد جيش جرار، ولي قيادته أخوه موسى، وجعله موجهًا لمحاربة سليمان الذي هزم موسى، ولكنه عاد مرة أخرى فانتصر عليه، وقتل موسى أخاه سليمان خارج أسوار أدرنة. وبعدها أغار على بلاد الصرب، وعاقب أهلها على خروجهم عن الطاعة، وقاتل «سيجسموند» ملك المجر، وهنا حدث أمر في غاية السوء؛ إذ دخل الطمع في قلب موسى الذي رأى نفسه ينتصر من مكان لآخر بالجند والجيش الذي منحه إياه محمد جلبي؛ إذ أراد أن يستقل بالأمر لنفسه.
فتوجه موسى، الذي أراد أن ينتزع البلاد في القسم الأوروبي لنفسه، إلى القسطنطينية فحاصرها ليفتحها أيضًا لنفسه، فاستنجد ملكها بالأمير محمد جلبي الذي جاء مسرعًا لمحاربته ورفع الحصار عن المدينة. وبالفعل، رُفِع الحصار، وتحالف مع القسطنطينية وأمير الصرب، وبثوا الدسائس في جيش موسى، الذي خانه أغلب قواده، وسُلِّم إلى محمد جلبي الذي قتله عام 1413 م. وبذلك بسط محمد جلبي سيطرته على الدولة العثمانية من جديد، وبدأ في مرحلة لم الأجزاء المفتتة، وهي من أصعب المراحل في ظل هذا الوضع المأسوي؛ ولذلك اعتبر المؤسس الثاني للدولة العثمانية بعد عثمان بن أرطغرل؛ إذ أنه أعاد الدولة من الشتات مرة أخرى.
وقفة
إن الدولة العثمانية مرت بفترات من الضعف والفتور، وإن كانت تعد هذه الفترة من أخطر الفترات التي مرت في حياة هذه الدولة العظيمة، إذ كانت تتجاذب أطرافها عدة أمور في آن واحد، حيث الهزيمة الساحقة في موقعة أنقرة من جانب، ومؤامرات الأعداء من جانب آخر، ناهيك عن عصيانات ترفع وتشرذم الدولة وموالاة حكامها لتيمورلنك، والخيانات الداخلية والعمل للمصالح الشخصية من قبل الوزراء والأمراء. ولكن الأخطر من ذلك كله، هو الصراع على السلطة الذي ما إن اشتعل في بلد ما -مهما كانت قوته- لا ينتهي إلا بتدمير وخسائر فادحة لهذا البلد.
فسيطر محمد جلبي على مقاليد الأمور في نهاية الأمر، إلا أن التساؤل الذي لا بد أن يُسأل هنا: كم هي الخسائر التي مُنِيت بها الأمة الإسلامية بسبب هذا الصراع الذي دام عشر سنوات وعدة أشهر؟
سنجد أن الخسائر لا تعد ولا تحصى، حيث قاتل الأخ أخاه، وفتح الباب على مصراعيه للأعداء بالدخول إلى عمق الأراضي الإسلامية بدعم القادة المسلمين ومعرفة أدق وأخطر أسرار الدولة في وقت كان لا بد فيه من التكاتف والوقوف في صف الأمة الإسلامية، لا في صف الأهواء الشخصية. فسبحان اللّه، كانت الدولة العثمانية في عهد بايزيد على أعتاب القسطنطينية، ولكنها لم تفتح له، بل انهزم بعد ذلك في موقعة أنقرة، وتشرذمت الدولة بالكامل بعد أن كانت في أوج قوتها، بل ولم تُفتح أيضا على يد موسى الذي حاصرها لنفسه ولمجد شخصي.
كما لو أن اللّه عز وجل يريد أن يبين ويوضح أن هذا الجيش، بهذا التكوين الذي فيه من الجند النصارى من الدول التابعة للدولة العثمانية والأمراء الكرمان وأبناء بايزيد، لا يصلح للفتح في ذلك الوقت؛ إذ أن الخبث منتشر في النفوس، ولا يمكن الفتح إلا بعد التنقية والتصفية ليميز اللّه الخبيث من الطيب، ثم الاختبار ليكونوا أهلًا له. وبالفعل، تفتح المدينة على يد محمد الفاتح بجيش قيل في حقه:
“نعم الجيش ونعم الأمير”، وتلكم الشهادة من خير البشر، وهو رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم-.
السلطان محمد جلبي
بعد أن انتهى أمر موسى بن بايزيد، خلت الساحة لمحمد جلبي الذي أصبح سلطان الدولة العثمانية بلا منافس بعد مرور فترة ليست بالطويلة ولا بالقصيرة التي تحدثنا عنها. وقد اختلف الوضع بشكل كبير بعد توليه السلطنة؛ إذ فرغ للفتن الداخلية والصراعات الخارجية، والتي تعامل معها بحكمة وحذر وذكاء كبير، حيث كان يوازن بين عدم الدخول في الحرب، نظرًا لأن جيشه لا يقوى عليها في هذا الوقت، وبين الحفاظ على هيبة الدولة رغم وجود خروج عن طاعته واستقلالات عن الدولة، فكيف تعامل مع هذا كله؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
المصادر
مرت الأمة الإسلامية بفترات طويلة من القوة والضعف، والفتية والشيخوخة، ثم النهوض لتعود لمرحلة الشباب مرة أخرى بقوة وبأس شديدين في دورة حياة الأمم، ومن فترات المحن التي مرت بالأمة الإسلامية، كانت الفترة التي تلت معركة أنقرة التي انهزم فيها السلطان بايزيد الصاعقة، ووقع في الأسر على يد تيمورلنك، حيث تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة، مثلما حدث بعد سقوط دولة آل سلجوق؛ ذلك لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قستموني وصاروخان وكرميان ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد، حيث كان هدفه الرئيسي هو إشعال نار الفتنة في البلاد كي لا تستطيع أن تقوم مرة أخرى.
الوضع بعد معركة أنقرة
كان الوضع بعد معركة أنقرة مأسويًا لأقصى الدرجات؛ إذ تمزقت الدولة على نحو كبير، وتصارع الأبناء وانتهز الأعداء الفرصة للانقضاض على الدولة، سواء من الداخل أو من الخارج، فتشتت الدولة وتجزأت أوصالها، ناهيك عن كون كل أمراء التركمان يسعون بكل جد واجتهاد لنيل رضاء تيمورلنك، بل وعيّن تابعه المخلص «طهارتن» في حكم أرزينجان وزاد في أملاكه، وفعل مثل ذلك مع تابعه الآخر «عثمان قرايلوك»، حاكم ديار بكر وزعيم الآق قويونلي.
وبعد استقلال الأمراء التركمان، تشجع كل من البلغار والصرب والفلاخ على الخروج عن الدولة وإعلان العصيان، وبالتالي لم يبقَ للدولة العثمانية إلا قليل من البلدان تحت سيطرتها، وقد أتاحت موقعة أنقرة وهزيمة آل عثمان الفرصة الكبيرة للدولة البيزنطية لالتقاط الأنفاس، بعد أن كانت على وشك فتح أبواب مدينة القسطنطينية، الأمر الذي مهّد الطريق للمؤامرات على الدولة العثمانية من جديد، والاستعداد بحملة عسكرية لإجلائهم بالكامل من أوروبا. ولكن خلافات زعمائهم جنوب الدانوب وضعف هذه الحملة كانت سببًا لفشلها، وإن كان قد بدأ بالفعل الإمبراطور البيزنطي بطرد المسلمين من الحي المخصص لهم في القسطنطينية.
أما الذي زاد من شدة الفتنة أن رؤوس الأمر في تصارع وتناحر شديدين، فكل أولاد بايزيد يتصارعون لأخذ السلطة، كلٌ على طريقته؛ «فسليمان بن بايزيد»، الذي انسحب من المعركة مع عدد وفير من الجند إلى بورصة لإنقاذ الأموال والنساء والأولاد من القوات التيمورية التي كانت تتعقبه، قد وجه أنظاره نحو الغرب الصليبي البيزنطي، حيث عقد محالفة مع «مانويل الثاني» ليساعده على محاربة إخوته الذين ينافسونه على الحكم. ولأجل ذلك، تزوج سليمان من إحدى قريبات الإمبراطور، بل وعقد معاهدة مع الوصي على العرش «جان السابع» والجمهورية البندقية والجمهورية الجنوية، وهم من أشد أعداء الدولة العثمانية وأكثرهم رغبة في إجلاءها من أوروبا بالكامل، وتتضمن تلك الاتفاقية وجوب فتح المعابر في السلطنة لتجارتهم، وبالتالي موافقة السلطان على عدم دخول السفن العثمانية إلى الدردنيل أو الخروج منه دون إجازة منهم. بل وتنازل سليمان فيها عن “سالونيك” ومنطقتها التي كانت سقطت بيد القائد العثماني «أفرقوس بك»، وإعفاء الإمبراطور البيزنطي والجاليات الجنوية في البحر الأسود من الضريبة المفروضة عليهم.
وكان تحالف سليمان يضم بجانب الإمبراطور البيزنطي، كلًا من فرسان القديس يوحنا في رودس، و«أسطفان لازار» الصربي، وحاكم ناكسوس وجنوه، وفي الوقت الذي أعلن فيه سليمان نفسه سلطانًا على الروميلي متخذًا أدرنة عاصمة له، كان إخوته «عيسى» و«موسى» و«محمد» يتناحرون في الأناضول سعيًا لتحقيق الغلبة المطلقة هناك. ولأجل زيادة الشقاق والخلاف، فقد عمد أمراء الأناضول والدولة البيزنطية إلى توسيع هوة الخلاف بين الإخوة ومساعدة أحدهم على الآخر من أجل عدم استعادة الدولة هيبتها مرة أخرى، ولتصبح مجرد تابع إلى حين تأتي الفرصة لطردهم جميعًا من أوروبا.
لذلك؛ لما تُوفي السلطان بايزيد -رحمه اللّه- وأُرسِل جثمانه إلى ابنه موسى ليدفنه في بورصة -كما كانت وصية والده-، غادرها أخوه عيسى، ولكنه استعادها بعد ذلك؛ ما جعل موسى مضطرًا للجوء إلى خاله «يعقوب بك ابن كرمان» في كوتاهية؛ فحُجزَ هناك، ولم يستطع الخروج منها إلى أن استطاع بعد ذلك أن يحرره ويفك أسره أخوه «محمد جلبي». وكان عيسى قد استقر في “باليكسير” و”بورصة”، واستقر محمد جلبي الذي وطد مقامه في “أماسيا” و”توقات” و”نيكحصار” و”سيواس”، وعرض محمد جلبي تقسيم الأناضول فيما بينه وبين عيسى حقنًا للدماء فرفض؛ فكان لا مفر من المواجهة بين الفريقين، وكان سليمان في ذلك الوقت مكتفيًا بمساعدة عيسى على أخيه محمد دون تدخل بقواته بشكل فعلي، وحدثت الموقعة بين الفريقين عند “أولوباد” التي هُزم فيها عيسى، وفر هاربًا والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطي الذي سلمه لأخيه الأكبر سليمان في “أدرنة”، ثم سعى لإعادته مرة أخرى إلى الأناضول ليواجه محمد جلبي كي لا ينفرد بالحكم. وفي ذلك الوقت، سعى محمد جلبي إلى فك أسر أخيه موسى من الكرمان كي يساعده في حربه ضد إخوته، إي أن الوضع في ذلك الوقت محتدم بشدة وإلى أقصى الدرجات.
والذي نحمد اللّه عليه أن تيمورلنك انشغل بحملته على الصين؛ ما أبعده عن الدولة العثمانية، إذ كانت لديه القدر الكافي للقضاء عليها تمامًا، وكأن اللّه أراد أن يمنح هذه الدولة فرصة أخرى ومنحة جديدة لتساهم في نشر دين اللّه تعالى وتستكمل مسيرة الفتوحات.
اشتعال الصراع
أصبح الوضع الآن بين جبهتين بين الأخوة الأربعة، وكل جبهة تعادي الأخرى وتتمنى لها الموت التام لبسط السيطرة والنفوذ. وكانت طائفة العلماء تدعم محمد جلبي لأنه لم يخنع ويخضع مثل أخيه سليمان، سواء للصليبين أو لتيمورلنك، وبالتالي كان أملهم في إعادة الأمجاد مرة أخرى يتمثل في تمكين محمد جلبي من الحكم، ونظرًا لانتصار محمد جلبي على أخيه عيسى، الأمر الذي أقلق سليمان بشدة؛ ما جعله يجهز جيشًا وضع على رأسه أخاه عيسى. إلا أنه مُنيَ بهزيمة جديدة، ما دفعه للهروب إلى «إسفنديار بك»، الذي حصل على دعمه ضد أخيه. وعاد الكرة مرة أخرى، ولكنه مُنيَ بهزيمة جديدة؛ فالتجأ إلى الكيرمان، إلا أن الإخفاق كان حليفه؛ فوجه شطره إلى «ابن قرة مان»، ولكن قبض عليه عند عودته، وقُتل سنة 1405 م.
قام محمد جلبي بإعداد جيش جرار، ولي قيادته أخوه موسى، وجعله موجهًا لمحاربة سليمان الذي هزم موسى، ولكنه عاد مرة أخرى فانتصر عليه، وقتل موسى أخاه سليمان خارج أسوار أدرنة. وبعدها أغار على بلاد الصرب، وعاقب أهلها على خروجهم عن الطاعة، وقاتل «سيجسموند» ملك المجر، وهنا حدث أمر في غاية السوء؛ إذ دخل الطمع في قلب موسى الذي رأى نفسه ينتصر من مكان لآخر بالجند والجيش الذي منحه إياه محمد جلبي؛ إذ أراد أن يستقل بالأمر لنفسه.
فتوجه موسى، الذي أراد أن ينتزع البلاد في القسم الأوروبي لنفسه، إلى القسطنطينية فحاصرها ليفتحها أيضًا لنفسه، فاستنجد ملكها بالأمير محمد جلبي الذي جاء مسرعًا لمحاربته ورفع الحصار عن المدينة. وبالفعل، رُفِع الحصار، وتحالف مع القسطنطينية وأمير الصرب، وبثوا الدسائس في جيش موسى، الذي خانه أغلب قواده، وسُلِّم إلى محمد جلبي الذي قتله عام 1413 م. وبذلك بسط محمد جلبي سيطرته على الدولة العثمانية من جديد، وبدأ في مرحلة لم الأجزاء المفتتة، وهي من أصعب المراحل في ظل هذا الوضع المأسوي؛ ولذلك اعتبر المؤسس الثاني للدولة العثمانية بعد عثمان بن أرطغرل؛ إذ أنه أعاد الدولة من الشتات مرة أخرى.
وقفة
إن الدولة العثمانية مرت بفترات من الضعف والفتور، وإن كانت تعد هذه الفترة من أخطر الفترات التي مرت في حياة هذه الدولة العظيمة، إذ كانت تتجاذب أطرافها عدة أمور في آن واحد، حيث الهزيمة الساحقة في موقعة أنقرة من جانب، ومؤامرات الأعداء من جانب آخر، ناهيك عن عصيانات ترفع وتشرذم الدولة وموالاة حكامها لتيمورلنك، والخيانات الداخلية والعمل للمصالح الشخصية من قبل الوزراء والأمراء. ولكن الأخطر من ذلك كله، هو الصراع على السلطة الذي ما إن اشتعل في بلد ما -مهما كانت قوته- لا ينتهي إلا بتدمير وخسائر فادحة لهذا البلد.
فسيطر محمد جلبي على مقاليد الأمور في نهاية الأمر، إلا أن التساؤل الذي لا بد أن يُسأل هنا: كم هي الخسائر التي مُنِيت بها الأمة الإسلامية بسبب هذا الصراع الذي دام عشر سنوات وعدة أشهر؟
سنجد أن الخسائر لا تعد ولا تحصى، حيث قاتل الأخ أخاه، وفتح الباب على مصراعيه للأعداء بالدخول إلى عمق الأراضي الإسلامية بدعم القادة المسلمين ومعرفة أدق وأخطر أسرار الدولة في وقت كان لا بد فيه من التكاتف والوقوف في صف الأمة الإسلامية، لا في صف الأهواء الشخصية. فسبحان اللّه، كانت الدولة العثمانية في عهد بايزيد على أعتاب القسطنطينية، ولكنها لم تفتح له، بل انهزم بعد ذلك في موقعة أنقرة، وتشرذمت الدولة بالكامل بعد أن كانت في أوج قوتها، بل ولم تُفتح أيضا على يد موسى الذي حاصرها لنفسه ولمجد شخصي.
كما لو أن اللّه عز وجل يريد أن يبين ويوضح أن هذا الجيش، بهذا التكوين الذي فيه من الجند النصارى من الدول التابعة للدولة العثمانية والأمراء الكرمان وأبناء بايزيد، لا يصلح للفتح في ذلك الوقت؛ إذ أن الخبث منتشر في النفوس، ولا يمكن الفتح إلا بعد التنقية والتصفية ليميز اللّه الخبيث من الطيب، ثم الاختبار ليكونوا أهلًا له. وبالفعل، تفتح المدينة على يد محمد الفاتح بجيش قيل في حقه:
“نعم الجيش ونعم الأمير”، وتلكم الشهادة من خير البشر، وهو رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم-.
السلطان محمد جلبي
بعد أن انتهى أمر موسى بن بايزيد، خلت الساحة لمحمد جلبي الذي أصبح سلطان الدولة العثمانية بلا منافس بعد مرور فترة ليست بالطويلة ولا بالقصيرة التي تحدثنا عنها. وقد اختلف الوضع بشكل كبير بعد توليه السلطنة؛ إذ فرغ للفتن الداخلية والصراعات الخارجية، والتي تعامل معها بحكمة وحذر وذكاء كبير، حيث كان يوازن بين عدم الدخول في الحرب، نظرًا لأن جيشه لا يقوى عليها في هذا الوقت، وبين الحفاظ على هيبة الدولة رغم وجود خروج عن طاعته واستقلالات عن الدولة، فكيف تعامل مع هذا كله؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
المصادر
انشر البوست على : on Twitter on Facebook on Google+ on LinkedIn